فصل: تفسير الآيات رقم (12- 13)

مساءً 9 :32
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت، وقوم من منافقي الأنصار كانوا بعثوا إلى بني النضير وقالوا لهم، أثبتوا في معاقلكم فإنا معكم حيثما تقلبت حالكم، وإنما أرادوا بذلك أن تقوى نفوسهم عسى أن يثبتوا حتى لا يقدر محمد عليهم فيتم لهم مرادهم وكانوا كذبة فيما قالوا من ذلك، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بني النضير بل قعدوا في ديارهم‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لئن نصروهم‏}‏ معناه‏:‏ ولئن حاولوا ذلك فإنهم ينهزمون، ثم لا ينصر الله تعالى منهم أحداً، وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله‏:‏ ‏{‏لا يخرجون‏}‏ و‏:‏ ‏{‏لا ينصرونهم‏}‏ لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر، ثم خاطب تعالى أمة محمد مخبراً أن اليهود والمنافقين أشد خوفاً من المؤمنين منهم من الله تعالى، لأنهم يتوقعون عاجل الشر من المؤمنين، لا يؤمنون بآجل العذاب من الله تعالى وذلك لقلة فهمهم بالأمور وفقهم بالحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يقاتلونكم‏}‏ لبني النضير وجميع اليهود، وهذا قول جماعة المفسرين، ويحتمل أن يريد بذلك‏:‏ اليهود والمنافقين، لأن دخول المنافقين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى‏}‏ متمكن بين‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ ‏{‏لا يقاتلونكم‏}‏ في جيش مفحص، والقرى المدن‏.‏ قال الفراء هذا جمع شاذ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ما في القرآن فليس بشاذ وهو مثل ضيعة وضيع‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وكثير من المكيين «جدار» على معنى الجنس‏.‏ وقرأ كثير من المكيين وهارون عن ابن كثير‏:‏ «جَدْر» بفتح الجيم وسكون الدال ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه، وقرأ الباقون من القراء «جُدُر» بضم الجيم والدال وهو جمع جدار، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة «جُدْر» بضم الجيم وسكون الدال وهو تخفيف في جمع جدار، ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المضايقة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأسهم بينهم شديد‏}‏ أي في عائلتهم وأحبتهم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «تحسبهم جميعاً وفي قلوبهم أشتات»، وهذه حال الجماعات المتخاذلة وهي المغلوبة أبداً فيما يحاول، واللفظة مأخوذة من الشتات وهو التفرق ونحوه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الذين من قبلهم‏}‏ معناه مثلهم ‏{‏كمثل‏}‏، و‏{‏الذين من قبلهم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ هم بنو قينقاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير وكانوا مثلاً لهم، وقال قتادة ومجاهد‏:‏ ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ أهل بدر الكفار فإنهم قبلهم ومثل لهم في أن غلبوا وقهروا، وقال بعض المتأولين‏:‏ الضمير في قوله ‏{‏قبلهم‏}‏ للمنافقين، و‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ هم منافقو الأمم المتقدمة وذلك أنهم غلبوا ونالتهم الذلة على وجه الدهر فهم مثل لهؤلاء، ولكن قوله ‏{‏قريباً‏}‏ إما أن يكون في زمن موسى وإلا فالتأويل المذكور يضعف، إلا أن تجعل ‏{‏قريباً‏}‏ ظرفاً للذوق، فيكون التقدير ‏{‏ذاقوا وبال أمرهم‏}‏ ‏{‏قريباً‏}‏ من عصيانهم وبحدثانه، ولا يكون المعنى أن المثل قريب في الزمن من الممثل له، وعلى كل تأويل ف ‏{‏قريباً‏}‏ ظرف أو نعت لظرف والوبال‏:‏ الشدة والمكروه وعاقبة السوء، و«العذاب الأليم»‏:‏ هو في الآخرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الشيطان‏}‏ معناه مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير ‏{‏كمثل الشيطان‏}‏ والإنسان، فالمنافقون مثلهم الشيطان وبنو النضير مثلهم الإنسان، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن ‏{‏الشيطان‏}‏ و«الإنسان» في هذه الآية أسماء جنس لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس كما يغوي الشيطان الإنسان ثم يفر منه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت ووعدوهم النصر، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال، وذهب قوم من رواة القصص أن هذا شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص، وذكر الزجاج أن اسمه برصيص، قالوا إنه استودع امرأة وقيل سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون فسول له الشيطان الوقوع عليها فحملت، فخشي الفضيحة، فسول له قتلها ودفنها، ففعل ثم شهره، فلما استخرجت المرأة وحمل العابد شر حمل وهو قد قال‏:‏ إنها قد ماتت فقمت عليها ودفنتها، فلما وجدت مقتولة علموا كذبه فتعرض له الشيطان فقال له‏:‏ اكفر واسجد لي وأنجيك، ففعل وتركه عند ذلك‏.‏

وقال ‏{‏إني بريء منك‏}‏، وهذا كله حديث ضعيف، والتأويل الأول هو وجه الكلام وقول الشيطان‏:‏ ‏{‏إني أخاف الله‏}‏، رياء من قوله وليست على ذلك عقيدته، ولا يعرف الله حق معرفته ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلا آخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكان عاقبتهما‏}‏ الآية، يحتمل الضمير أن يعود على المخصوصين المذكورين، ويحتمل أن يعود على اسمي الجنس أي هذا هو عاقبة كل شيطان وإنسان يكون أمرهما هكذا، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد‏:‏ «عاقبتُهما» بالرفع، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «عاقبتَهما» بالنصب وموضع أن يخالف إعراب المعاقبة في القراءتين إن شاء الله تعالى، وقرأ الأعمش وابن مسعود‏:‏ «خالدان» بالرفع على أنه خبر «أن»، والظرف ملغى، ويلحق هذه الآية من الاعتراض إلغاء الظرف مرتين قاله الفراء، وذلك جائز عند سيبويه على التأكيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

هذه آية وعظ وتذكير وتقريب للآخرة، وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «ولْتنظرْ» بسكون اللام وجزم الراء على الأمر، وقرا يحيى بن الحارث وأبو حيوة وفرقة كذلك بالأمر إلا أنها كسرت اللام على أصل لام الأمر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن فيما روي عنه‏:‏ «ولتنظرَ» بنصب الراء على لام كي كأنه قال وأمرنا بالتقوى لتنظروا، كأنه قال‏:‏ ‏{‏اتقوا الله‏}‏ ولتكن تقواكم «لتنظرَ»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لغد‏}‏ يريد يوم القيامة، قال قتادة‏:‏ قرب الله القيامة حتى جعلها غداً، وذلك أنها آتية لا محالة وكل آت قريب، ويحتمل أن يريد بقوله ‏{‏لغد‏}‏‏:‏ ليوم الموت، لأنه لكل إنسان كغده ومعنى الآية‏:‏ ما قدمت من الأعمال، فإذا نظرها الإنسان تزيد من الصالحات، وكف عن السيئات، وقال مجاهد وابن زيد‏:‏ الأمس‏:‏ الدنيا، وغد‏:‏ الآخرة، وقرأ الجمهور‏:‏ «ولا تكونوا» بالتاء من فوق على مخاطبة جميع الذين آمنوا، وقرأ أبو حيوة «يكونوا» بالياء من تحت كناية عن النفس التي هي اسم الجنس، و‏{‏الذين نسوا الله‏}‏ هم الكفار، والمعنى‏:‏ تركوا الله وغفلوا عنه، حتى كانوا كالناسين، وعبر عما حفهم به من الضلالة ب ‏{‏فأنساهم أنفسهم‏}‏ سمى عقوبتهم باسم ذنبهم بوجه ما، وهذا أيضاً هو الجزاء على الذنب بالذنب تكسبوهم نسيان جهة الله فعاقبهم الله تعالى بأن جعلهم ينسون أنفسهم، قال سفيان‏:‏ المعنى حظ أنفسهم، ويعطي لفظ هذه الآية، أن من عرف نفسه ولم ينسها عرف ربه تعالى، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ اعرف نفسك تعرف ربك، وروي عنه أنه قال أيضاً‏:‏ من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «ولا أصحاب الجنة» بزيادة لا‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو أنزلنا هذا القرآن‏}‏ الآية، موعظة للإنسان أو ذم لأخلاقه في غفلته وإعراضه عن داعي الله تعالى، وذلك أن القرآن نزل عليهم وفهموه وأعرضوا عنه، وهو لو نزل على جبل وفهم الجبل منه ما فهم الإنسان لخشع واستكان وتصدع خشية لله تعالى، وإذا كان الجبل على عظمه وقوته يفعل هذا فما عسى أن يحتاج ابن آدم يفعل‏؟‏ لكنه يعرض ويصد على حقارته وضعفه، وضرب الله تعالى هذا المثل ليتفكر فيه العاقل ويخشع ويلين قلبه، وقرأ طلحة بن مصرف «مصدعاً» على إدغام التاء في الصاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من خشية الله‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 21‏]‏ جاء بالأوصاف التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية، و‏{‏الغيب‏}‏ ما غاب عن المخلوقين، و‏{‏الشهادة‏}‏ ما شاهدوه‏.‏ وقال حرب المكي ‏{‏الغيب‏}‏‏:‏ الآخرة ‏{‏والشهادة‏}‏‏:‏ الدنيا‏.‏ وقرأ جمهور الناس‏:‏ «القُدوس» بضم القاف، وهو فعول من تقدس إذا تطهر، وحظيرة القدس الجنة، لأنها طاهرة، ومنه روح القدس، ومنه الأرض المقدسة بيت المقدس، وروي عن أبي ذر أنه قرأ‏:‏ «القَدوس» بفتح القاف وهي لغة، و‏{‏السلام‏}‏ معناه‏:‏ الذي سلم من جوره، وهذا اسم على حذف مضاف أي ذو ‏{‏السلام‏}‏، لأن الإيمان به وتوحيده وأفعاله هي لمن آمن سلام كلها، و‏{‏المؤمن‏}‏ اسم فاعل من آمن بمعنى أمن‏.‏ قال أحمد بن يحيى ثعلب معناه‏:‏ المصدق للمؤمنين في أنهم آمنوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ أو في شهادتهم على الناس في القيامة‏.‏ وقال ناس من المتأولين معناه‏:‏ المصدق نفسه في أقواله الأزلية‏:‏ لا إله غيره و‏{‏المهيمن‏}‏ معناه‏:‏ الأمين والحفيظ‏.‏ قاله ابن عباس وقال مؤرج‏:‏ ‏{‏المهيمن‏}‏‏:‏ الشاهد بلغة قريش، وهذا بناء لم يجئ منه في الصفات إلا مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر، جاء منه في الأسماء مجيمر‏:‏ وهو اسم واد ومديبر‏.‏ و‏:‏ ‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر يقال عزيز إذا غلب برفع العين في المستقبل‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وعزني في الخطاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 23‏]‏ أي غلبني، وفي المثل من عز بزّ أي من غلب سلب، و‏{‏الجبار‏}‏ هو الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق رتبه، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق وأنشد الزهراوي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أطافت به جيلان عند قطاعه *** وردت إليه الماء حتى تجبرا

و ‏{‏المتكبر‏}‏ معناه الذي له التكبر حقاً، ثم نزه الله تعالى نفسه عن إشراك الكفار به الأصنام التي ليس لها شيء من هذه الصفات، و‏:‏ ‏{‏البارئ‏}‏ بمعنى ‏{‏الخالق‏}‏، برأ الله الخلق أي أوجدهم، و‏:‏ ‏{‏المصور‏}‏ هو الذي يوجد الصور، وقرأ علي بن أبي طالب‏:‏ «المصوَّرَ» بنصب الواو والراء على إعمال ‏{‏البارئ‏}‏ به، وهي حسنة يراد بها الجنس في الصور، وقال قوم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قرأ‏:‏ «المصوَّرِ» بفتح الواو وكسر الراء على قولهم الحسن الوجه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏له الأسماء الحسنى‏}‏ أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته لا إله إلا هو، وهذه الأسماء هي التي حصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة»، وقد ذكرها الترمذي وغيره مسندة، واختلف في بعضها ولم يصح فيها شيء إلا إحصاؤها دون تعين، وباقي الآية بين‏.‏

سورة الممتحنة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فورى عن ذلك بخيبر، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث علياً والزبير وثالثاً هو المقداد، وقيل أبو مرثد، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة، فقالوا لها‏:‏ أخرجي الكتاب‏.‏ قالت‏:‏ ما معي كتاب، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئاً، فقال بعضهم‏:‏ ما معها كتاب، فقال علي‏:‏ ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك‏.‏ قالت‏:‏ أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها، وقيل‏:‏ أخرجته من حجزتها، فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب‏:‏ من كتب هذا‏؟‏ فقال‏:‏ أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتداداً عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر‏.‏ فقال‏:‏ «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ولا تقولوا لحاطب إلا خير»، فنزلت الآية بهذا السبب، وروي أن حاطباً كتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل، والسيل، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير، و‏{‏تلقون‏}‏ في موضع الصفة ل ‏{‏أولياء‏}‏، وألقيت يتعدى بحرف الجر، وبغير حرف جر، فدخول الباء وزوالها سواء، وهذا نظير قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 151‏]‏ وروى ابن المعلى عن عاصم أنه قرأ‏:‏ «وقد كفروا لما» بلام‏.‏‏.‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرجون‏}‏ في موضع الحال من الضمير في ‏{‏كفروا‏}‏ والمعنى‏:‏ يخرجون الرسول ويخرجونكم، وهي حال موصوفة، فلذلك ساق الفعل مستقبلاً والإخراج قد مر، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤدياً إلى الخروج، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تؤمنوا‏}‏ مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير‏:‏ «إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء» و‏{‏جهاداً‏}‏ نصب على المصدر وكذلك ‏{‏ابتغاء‏}‏، ويجوز أن يكون ذلك مفعولاً من أجله، و«المرضاة» مصدر كالرضى، و‏{‏تسرون‏}‏ بدل من ‏{‏تلقون‏}‏، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء، كأنه قال أنتم ‏{‏تسرون‏}‏، ويصح أن تكون فعلاً مرسلاً ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء، فيترجح بهذا أن ‏{‏تسرون‏}‏ فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعلم‏}‏ يحتمل أن يكون أفعل، ويحتمل أن يكون فعلاً، لأنك تقول عملت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنا أعلم‏}‏ الآية، جملة في موضع الحال، وقرأ أهل المدينة «وأنا» بإشباع الألف في الإدراج، وقرأ غيرهم «وأنا» بطرح الألف في الإدراج، والضمير في ‏{‏يفعله‏}‏ عائد على الاتخاذ المذكور، ويجوز أن تكون ‏{‏سواء‏}‏ مفعولاً ب ‏{‏ضل‏}‏ وذلك على بعد، وذلك على تعدي ‏{‏ضل‏}‏، ويجوز أن يكون ظرفاً على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

أخبر الله تعالى أن مداراة هؤلاء الكفار غير نافعة في الدنيا وأنها ضارة في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يثقفوكم‏}‏ أي إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم، ظهرت العداوة وانبسطت أيديهم بضرركم وقتلكم وألسنتهم بسبكم، وهذا هو السوء، وأشد من هذا كله أنهم إنما يقنعهم منكم أن تكفروا وهذا هو ودهم، ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ليست بنافعة يوم القيامة فالعامل في ‏{‏يوم‏}‏ قوله ‏{‏تنفعكم‏}‏، وقال بعض النحاة في كتاب الزهراوي، العامل فيه ‏{‏يفصل‏}‏ وهو مما بعده لا مما قبله، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والعامة‏:‏ «يُفْصَل» بضم الياء وسكون الفاء وتخفيف الصاد مفتوحة، وقرأ ابن عامر والأعرج وعيسى‏:‏ «يُفَصَّل» بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد منصوبة، واختلف على هاتين القراءتين في إعراب قوله‏:‏ ‏{‏بينكم‏}‏ فقيل‏:‏ نصب على الظرفية، وقيل رفع على ما لم يسم فاعله إلا أن لفظه بقي منصوباً لأنه كذلك كثر استعماله، وقرأ عاصم والحسن والأعمش‏:‏ «يَفْصِل» بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب‏:‏ «يُفَصِّل» بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة، وإسناد الفعل في هاتين القراءتين إلى الله تعالى، وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف‏:‏ «نفَصِّلُ» بنون العظمة مرفوعة وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة، وقرأ بعض الناس‏:‏ «نَفْصل» بنون العظمة مفتوحة وسكون الفاء، وقرأ أبو حيوة، بضم الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة من‏:‏ «أفصل» وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ وعيد وتحذير، وقرأ جمهور السبعة‏:‏ «إسوة» بكسر الهمزة، وقرأ عاصم وحده‏:‏ «أسوة» بضمها وهما لغتان، والمعنى‏:‏ قدوة وإمام ومثال، و‏{‏إبراهيم‏}‏ هو خليل الرحمن، واختلف الناس في ‏{‏الذين معه‏}‏، فقال قوم من المتأولين أراد من آمن به من الناس، وقال الطبري وغيره‏:‏ أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريباً من عصره، وهذا القول أرجح لأنه لم يُروَ أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحته نمروداً، وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجراً من بلد النمرود‏:‏ ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك، وهذه الأسوى مقيدة في التبري عن الإشراك وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا عليه السلام أسوة حسنة على الإطلاق لأنها في العقائد وفي أحكام الشرع كلها، وقرأ جمهور الناس «برءاء» على وزن فعلاء الهمزة الأولى لام الفعل، وقرأ عيسى الثقفي‏:‏ «بِراء»، على وزن فِعال، بكسر الباء ككريم وكرام، وقرأ يزيد بن القعقاع‏:‏ «بُراء» على وزن فُعال، بضم الفاء كنوام، وقد رويت عن عيسى قراءة، قال أبو حاتم‏:‏ زعموا أنه عيسى الهمداني ويجوز‏:‏ «بَراء» على المصدر بفتح الباء يوصف به الجمع والإفراد، وقوله‏:‏ ‏{‏كفرنا بكم‏}‏ أي كذبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها، ونظير هذا قوله عليه السلام حكاية عن قول الله عز وجل‏:‏ فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ولم تلحق العلامة في‏:‏ ‏{‏بدا‏}‏ لأن تأنيث ‏{‏العداوة والبغضاء‏}‏ غير حقيقي، ثم استثنى تعالى استغفار إبراهيم لأبيه، وذكر أنه كان عن موعدة وقد تفسر ذلك في موضعه، وهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى عند مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم‏:‏ أن الأسوة لكم في هذا الوجه، لا في هذا الآخر لأنه كان في علة ليست في نازلتكم، ويحتمل أن يكون استثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم تبق صلة إلا كذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا عليك توكلنا‏}‏ الآية، حكاية عن قول إبراهيم والذين معه إنه هكذا كان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا لا تجعلنا‏}‏ الآية، حكاية عن إبراهيم ومن معه والمعنى‏:‏ لا تغلبهم علينا، فتكون لهم فتنة وسبب ضلالة، لأنهم يتمسكون بكفرهم ويقولون إنما غلبناهم لأنا على الحق وهم على الباطل، نحا هذا المنحى قتادة وأبو مجلز، وقال ابن عباس المعنى‏:‏ لا تسلطهم علينا فيفتنوننا عن أدياننا فكأنه قال‏:‏ لا تجعلنا مفتونين فعبر عن ذلك بالمصدر وهذا أرجح الأقوال لأنهم إنما دعوا لأنفسهم، وعلى منحى قتادة إنما دعوا للكفار‏.‏ أما أن مقصدهم إنما هو أن يندفع عنهم ظهور الكفار الذي يسببه فتن الكفار فجاء في المعنى تحليق بليغ، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بئس الميت سعد- ليهود- لأنهم يقولون لو كان محمد نبياً لم يمت صاحبه»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم‏}‏ الآية خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله‏:‏ ‏{‏لمن‏}‏ بدل من قوله ‏{‏لكم‏}‏ وكرر حرف الجر ليتحقق البدل وذلك عرف هذه المبدلات، ومنه قوله تعالى ‏{‏للفقراء المهاجرين‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏ وهو في القرآن كثير وأكثر ما يلزم من الحروف في اللام، ثم أعلم تعالى باستغنائه عن العباد وأنه ‏{‏الحميد‏}‏ في ذاته وأفعاله لا ينقص ذلك كفر كافر ولا نفاق منافق‏.‏ وروي أن هذه الآيات لما نزلت وأزمع المؤمنون امتثال أمرها وصرم حبال الكفرة وإظهار عداوتهم لحقهم تأسف على قراباتهم وهم من أن لم يؤمنوا ولم يهتدوا حتى يكون بينهم الود والتواصل فنزلت‏:‏ ‏{‏عسى الله‏}‏ الآية مؤنسة في ذلك ومرجية أن يقع موقع ذلك بإسلامهم في الفتح وصار الجميع إخواناً، ومن ذكر أن هذه المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأنها كانت بعد الفتح، فقد أخطأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وقت هجرة الحبشة، وهذه الآيات نزلت سنة ست من الهجرة، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالاً وإن كان متقدماً لهذه الآية، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات، و‏{‏عسى‏}‏ من الله واجبة الوقوع إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

اختلف الناس في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبروا من هم‏.‏ فقال مجاهد‏:‏ هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة وقال آخرون‏:‏ أراد المؤمنين التاركين للهجرة كانوا من أهل مكة ومن غيرها‏.‏ وقال الحسن وأبو صالح‏:‏ أراد خزاعة وبني الحارث بن كعب، وقبائل منا لعرب كفار إلا أنهم كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم محبين فيه وفي ظهوره، ومنهم كنانة وبنو الحارث بن عبد مناة ومزينة، وقال قوم‏:‏ أراد من كفار قريش من لم يقاتل‏:‏ ولا أخرج ولا أظهر سوءاً، وعلى هذين القولين فالآية منسوخة بالقتال، وقال عبد الله بن الزبير‏:‏ أراد النساء والصبيان من الكفرة، وقال إن الآية نزلت بسبب أم أسماء حين استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها فأذن لها، وكانت المرأة خالتها فيما روي فسمتها في حديثها أماً، وقال أبو جعفر بن النحاس والثعلبي‏:‏ أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، وهذا قول ضعيف‏.‏ وقال مرة الهمداني وعطية العوفي‏:‏ نزلت في قوم من بني هاشم، منهم العباس، قال وقتادة نسختها ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تبروهم‏}‏ بدل، وهذا هو بدل الاشتمال، والإقساط‏:‏ العدل، و‏{‏ظاهروا‏}‏ معناه‏:‏ عاونوا، و«الذين قاتلوا في الدين وأخرجوا» هم مردة قريش وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات‏}‏ الآية نزلت إثر صلح الحديبية، وذلك أن الصلح تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلماً من رجل وامرأة فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم أن المهاجرة لا ترد إلى الكفار بل تبقى تستبرئ وتتزوج ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق، وأمر أيضاً المؤمنين بطلب صداق من فرت امرأته من المؤمنين، وحكم تعالى بهذا في النازلة وسماهم مؤمنات قبل أن يتيقن ذلك إذ هو ظاهر أمرهن، و‏{‏مهاجرات‏}‏ نصب على الحال، ‏{‏فامتحنوهن‏}‏ معناه‏:‏ جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهن‏.‏ واختلف الناس في هذا الامتحان كيف هو، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة‏:‏ كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها ولا لجريرة جرت ولا لسبب من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الامتحان أن تطلب بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلت ذلك لم ترد، فقال فريق منهم عائشة أم المؤمنين‏:‏ الامتحان هو أن تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذا من ترك الزنا والسرقة والبهتان والعصيان، فإذا أقرت بذلك فهو امتحان، وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة وفي كتاب الثعلبي أنها نزلت في سبيعة بنت الحارث، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله أعلم بإيمانهم‏}‏ إشارة إلى الاسترابة ببعضهن وحض على امتحانهن، وذكر تعالى العلة في أن لا يرد النساء إلى الكفار وهي امتناع الوطء وحرمته، وقرأ طلحة‏:‏ «لا هن يحللن لهم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن، فقيل‏:‏ الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها، ابتداء، وقيل‏:‏ هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب، والعصم‏:‏ جمع عصمة‏:‏ وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وكذلك العصمة في كل شيء، السبب الذي يعتصم به، ويعتمد عليه، وقرأ جمهور السبعة والناس‏:‏ «تُمسِكوا» بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من أمسك، وقرأ أبو عمرو وحده وابن جبير ومجاهد والأعرج والحسن بخلاف «ولا تمسّكوا» من مسك، بالشد في السين، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد المجيد‏:‏ «تَمَسَّكوا» بفتح التاء والميم، وفتح السين وشدها، وقرأ الحسن‏:‏ «تَمْسِكوا» بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة‏.‏

ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال‏:‏ سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏، إنه في الرجال والنساء، فقلت له‏:‏ النحويون لا يرون هذا إلا في النساء، لأن كوافر‏:‏ جمع كافرة، فقال وايش يمنع من هذا أليس الناس يقولون‏:‏ طائفة كافرة، وفرقة كافرة، فبهت، وقلت هذا تأييد، وأمر تعالى أن يسأل أيضاً الكافرون أن يدفعوا الصدقات التي أعطاها المؤمنون لمن فر من أزواجهم إلى الكفار، وقرر الحكم بذلك على الجميع، فروي عن ابن شهاب أن قريشاً قالت‏:‏ نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم‏}‏ الآية، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق، قال ابن عباس في كتاب الثعلبي‏:‏ خمس نسوة من نساء المهاجرين رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين‏:‏ أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية أخت أم سلمة، كانت تحت عمر بن الخطاب، وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة‏.‏ واختلف الناس في أي مال يدفع إليه الصداق، فقال محمد بن شهاب الزهري‏:‏ يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم، وأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسبما ذكرناه، وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعاقبتم‏}‏ وسنبين ذلك في تفسير اللفظة إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ يدفع إليه من غنائم المغازي، وقال هؤلاء التعقيب بالغزو والمغنم وتأولوا اللفظة بهذا المعنى، وقال الزهري أيضاً‏:‏ يدفع إليه من اي وجوه الفيء أمكن، والعاقبة في هذه الآية، ليست بمعنى مجازاة السوء بالسوء لكنها بمعنى فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم، وهكذا هو التعقيب على الجمل والدواب أن يركب هذا عقبة ويركب هذا عقبة‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وإن فاتكم أحد من أزواجكم» ويقال عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر، ومنه قول الشاعر ‏[‏الكميت‏]‏‏:‏

وحاردت النكد الجلاد ولم يكن *** لعقبة قدر المستعيرين معقب

ويقال‏:‏ «عقّب» بشد القاف، أي أصاب عقبى، والتعقيب‏:‏ غزو إثر غزو، ويقال «عقَب» بتخفيفها، ويقال‏:‏ «عقِب» بكسرها كل ذلك بمعنى‏:‏ يقرب بعضه من بعض وبجميع ذلك قرئ، قرأ جمهور الناس‏:‏ «عاقبتم» وقرأ الأعرج ومجاهد والزهري وعكرمة وحميد‏:‏ «عقَّبتم» بالتشديد في القاف، وقرأ الأعرج أيضاً وأبو حيوة والزهري أيضاً‏:‏ «عقَبتم» بفتح القاف خفيفة، وقرأ النخعي والزهري أيضاً‏:‏ «عقِبتم» بكسر القاف حكمها، ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها، وذكر العلة التي بها يجب التقوى وهي الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا وهي كانت في المعنى بيعة الرجال قبل فرض القتال، وسماهم ‏{‏المؤمنات‏}‏ بحسب الظاهر من أمرهن، ورفض الاشتراك هو محض الإيمان، وقتل الأولاد وهو من خوف الفقر، وكانت العرب تفعل ذلك‏.‏ وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن‏:‏ «يُقَتِّلن» بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء المشددة، و«الإتيان بالبهتان»، قال أكثر المفسرين معناه أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس هو له واللفظ أعم من هذا التخصيص، فإن الفرية بالقول على أحد من الناس بعضيهة لمن هذا، وإن الكذب فيما ائتمن فيه من الحمل والحيض لفرية بهتان، وبعض أقوى من بعض وذلك أن بعض الناس قال ‏{‏بين أيديهن‏}‏ يراد به اللسان والفم في الكلام والقبلة ونحوه، «وبين الأرجل» يراد به الفروج وولد الإلحاق ونحوه، والمعروف الذي نهي عن العصيان فيه، قال أنس وابن عباس، وزيد بن أسلم‏:‏ هو النوح، وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة، فرضها وندبها‏.‏ ويروى أن جماعة نساء فيهن هند بنت عتبة بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهن الآي، فلما قررهن على أن لا يشركن قالت هند‏:‏ وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال‏؟‏ بمعنى أن هذا بين لزومه، فلما وقف على السرقة، قالت‏:‏ والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا أدري أيحل لي ذلك، فقال أبو سفيان‏:‏ ذلك لك حلال فيما مضى وبقي، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلي وولدك بالمعروف»‏.‏

وقدر تكرر هذا المعنى في الحديث الآخر قولها إن أبا سفيان رجل مسيك فلما وقف على الزنا قالت‏:‏ يا رسول الله وهل تزني الحرة‏؟‏ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ما تزني الحرة»، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء في أغلب الأمر، وفيما تعرف مثل هند وإلا فالبغايا قد كن أحراراً، فلما وقف على قتل الأولاد، قالت‏:‏ نحن ربيناهم صغاراً وقتلتهم أنت ببدر كباراً، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وقف على العصيان بالمعروف، قالت‏:‏ ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك، ويروى أن جماعة نساء بايعن النبي صلى الله عليه وسلم فقلن‏:‏ يا رسول الله نبايعك على كذا وكذا الآية، فلما فرغن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فيما استطعتن وأطلقتن»، فقلن الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبايعهن‏}‏ امض معهن صفقة الإيمان بأن يعطين ذلك من أنفسهن ويعطين عليه الجنة، واختلفت هيئات مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بعد الإجماع على أنه لم تمس يده يد امرأة أجنبية قط، فروي عن عائشة وغيرها أنه بايع باللسان قولاً، وقال‏:‏

«إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة»، وقالت أسماء بنت يزيد‏:‏ كنت في النسوة المبايعات فقلت‏:‏ يا رسول الله ابسط يدك نبايعك، فقال لي عليه السلام‏:‏ «إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن»، وذكر النقاش حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم مد يده من خارج بيت ومد نساء من الأنصار أيديهن من داخله فبايعهن وما قدمته أثبت، وروي عن الشعبي أنه لف ثوباً كثيفاً قطرياً على يده وجاء نسوة فلمسن يده كذلك، وروي عن الكلبي‏:‏ أنه قدم عمر بن الخطاب فلمس نساء يده وهو خارج من بيت وهن فيه بحيث لا يراهن، وذكر النقاش وغيره‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه النساء على الصفا بمكة وعمر بن الخطاب يصافحهن، وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورفعه النقاش عن ابن عباس وعن عروة بن مسعود الثقفي‏:‏ أنه عليه السلام غمس يده في إناء فيه ماء ثم دفعه إلى النساء فغمسن أيديهن فيه‏.‏ ثم أمره تعالى بالاستغفار لهن ورجاهن في غفرانه ورحمته بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قوماً غضب الله عليهم‏}‏ قال ابن زيد والحسن ومنذر بن سعيد هم اليهود لأن غضب الله قد صار عرفاً لهم، وقال ابن عباس‏:‏ هم في هذه الآية كفار قريش لأن كل كافر فعليه غضب من الله لا يرد بذلك ثبوت الغضب على اليهود‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا سيما في المردة ككفار قريش إذ أعمالهم مغضبة ليست بمجرد ضلال بل فيها شرارات مقصودة، وفي الكلام في التشبيه الذي في قوله‏:‏ ‏{‏كما يئس‏}‏ يتبين الاحتياج إلى هذا الخلاف وذلك أن اليأس من الآخرة إما أن يكون بالتكذيب بها، وهذا هو يأس كفار مكة، قال معنى قوله‏:‏ ‏{‏كما يئس الكفار‏}‏ كما يئس الكافر من صاحب قبر لأنه إذا مات له حميم قال‏:‏ هذا آخر العهد به لن يبعث أبداً، فمعنى الآية‏:‏ أن اعتقاد أهل مكة في الآخرة كاعتقاد الكافر في البعث ولقاء موتاه، وهذا هو تأويل ابن عباس والحسن وقتادة في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما يئس الكفار‏}‏، ومن قال إن القوم المشار إليهم هم اليهود، قال معنى قوله‏:‏ ‏{‏يئس الكفار‏}‏ أي كما يئس الكافر من الرحمة إذا مات وكان صاحب قبر، وذلك أنه يروى أن الكافر إذا كان في قبره عرض عليه مقعده في الجنة أن لو كان مؤمناً ثم يعرض عليه مقعده من النار الذي يصير إليه فهو يائس من رحمة الله مع علمه بها ويقينه، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏كما يئس الكفار‏}‏ فمعنى الآية‏:‏ أن يأس اليهود من رحمة الله في الآخرة مع علمهم بها كيأس ذلك الكافر في قبره وذلك لأنهم قد رين على قلوبهم وحملهم الحسد على ترك الإيمان وغلب على ظنونهم أنهم معذبون، وهذه كانت صفة كثير من معاصري النبي صلى الله عليه وسلم، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من أصحاب‏}‏ على القول الأول هي لابتداء الغاية، وفي القول الثاني هي لبيان الجنس والتبعيض يتوجهان فيها وبيان الجنس أظهر‏.‏

نجز تفسير سورة الممتحنة والحمد لله على ذلك‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قد تقدم القول غير مرة في تسبيح الجمادات، و‏{‏العزيز‏}‏ في سلطانه وقدرته، و‏{‏الحكيم‏}‏ في أفعاله وتدبيره، واختلف الناس في السبب الذي نزلت فيه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ فقال ابن عباس وأبو صالح‏:‏ نزلت بسبب أن جماعة قالوا‏:‏ لوددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى ربنا حتى نفنى فيه، ففرض الله الجهاد وأعلمهم بفضله لديه وأنه يحب المقاتلين في سبيله كالبنيان المرصوص، وكان إذ فرض قد تكرهه قوم منهم، وفر من فر يوم أحد فعاتبهم الله بهذه الآية بسبب أو جماعة من شباب المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب، فنزلت الآية في ذلك‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ نزلت في المنافقين لأن جملة منهم كانوا يقولون للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك، فنزلت الآية عتاباً لهم، وحكم هذه الآية باق غابر الدهر، وكل من يقول ما لا يفعل، فهو ممقوت مذق الكلام، والقول الآخر في المنافقين إنما يتوجه بأن يكونوا غير مجلحين بالنفاق فلذلك خوطبوا بالمؤمنين أي في زعمكم وما تظهرون، والقول الأول يترجح بما يأتي بعد من أمر الجهاد والقتال‏.‏ و«المقت»‏:‏ البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت، وهذا حد المقت فتأمله، و‏{‏مقتاً‏}‏ نصب على التمييز، والتقدير ‏{‏كبر‏}‏ فعلكم ‏{‏مقتاً‏}‏، والمراد كبر مقت فعلكم فحذف المضاف إليه ونصب المضاف على التمييز، وهذا كما تريد تفقأ شحم بطنك فتقول‏:‏ تفقأ بطنك شحماً، و‏{‏أن تقولوا‏}‏، يحتمل أن يكون بدلاً من المقدر، ويحتمل أن يكون فاعلاً ب ‏{‏كبر‏}‏، وقول المرء ما لا يفعل موجب مقت الله تعالى، ولذلك فر كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا السكوت، ثم وكد تعالى الإخبار بمحبته للمقاتلين ‏{‏صفاً‏}‏، ومحبة الله تعالى هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته وهي صفة فعل وليست بمعنى الإرادة، لأن الإرادة لا يصح أن يقع ما يخالفها، ونحن نجد المقاتلين على غير هذه الصفة كثيراً، وقال بعض الناس‏:‏ قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص فيه يتمكن، وهذا ضعيف خفي على قائله مقصد الآية، وليس المراد نفي التصاف وإنما المقصد الجد في كل أوطان القتال وأحواله، وقصد بالذكر أشد الأحوال وهي الحالة التي تحوج إلى القتال ‏{‏صفاً‏}‏ متراصاً، ونابت هذه الحال المذكورة مناب جميع الأحوال، وقضت الآية بأن الذين يبلغ جدهم إلى هذه الحال حريون بأن لا يقصروا عن حال، و‏{‏المرصوص‏}‏ المصفوف المتضام، وقال أبو بحرية رحمه الله‏:‏ إذا رأيتموني ألتفت في الصف فجبوا فؤادي ومنه قول الشاعر ‏[‏ابن أبي العنبس الثقفي‏]‏‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

وبالشعب بين صفائح *** صم ترصص بالجنوب

وقال منذر بن سعيد والبراء وغيره‏:‏ ‏{‏المرصوص‏}‏ المعقود بالرصاص، وهذا يحتمل أن يكون أصل اللفظة، ثم ذكر الله تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ذكرهم الله تعالى بقوم آذوا نبيهم على علم منهم بنبوته و‏{‏زاغوا‏}‏ ف ‏{‏أزاغ الله قلوبهم‏}‏، أي فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيركم العصيان، وقول الباطل إلى مثل حالهم، وقال أبو أمامة‏:‏ هم الخوارج، وقال سعد بن أبي وقاص‏:‏ هم الحرورية، المعنى‏:‏ أنهم أشباههم في أنهم لما ‏{‏زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏، وقوله ‏{‏لم تؤذونني‏}‏ تقرير، والمعنى ‏{‏تؤذونني‏}‏ بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم، وهذه كانت أفعال بني إسرائيل، وانظر إنه تعالى أسند الزيغ إليهم لكونه فعل حطيطة، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏نسوا الله فأنساهم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 19‏]‏ وهذا يخالف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم تاب عليهم ليتوبوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏ فأسند التوبة إلى نفسه لكونها فعل رفعة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وإذا مرضت فهو يشفين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏، و‏{‏زاغ‏}‏ معناه‏:‏ مال، وصار عرفها في الميل عن الحق، و‏{‏أزاغ الله قلوبهم‏}‏ معناه‏:‏ طبع عليها وختم وكثر ميلها عن الحق، وهذه العقوبة على الذنب بالذنب، وأمال ابن أبي إسحاق‏:‏ ‏{‏زاغوا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ «واذكر يا محمد إذ قال عيسى»، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لكفار قريش، وحكي عن موسى أنه قال‏:‏ ‏{‏يا قوم‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ وعن عيسى أنه قال‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل‏}‏ من حيث لم يكن له فيهم أب، و‏{‏مصدقاً‏}‏، حال مؤكدة، ‏{‏ومبشراً‏}‏ عطف عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأتي من بعدي‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اسمه أحمد‏}‏ جملتان كل واحدة منهما في موضع خفض على الصفة لرسول، و‏{‏أحمد‏}‏ فعل سمي به، ويحتمل أن يكون أفعل كأسود، وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص، وليست على حد قولك جاءنا أحمد لأنك ها هنا أوقعت الاسم على مسماه، وفي الآية إنما أراد‏:‏ اسمه هذه الكلمة، وذكر أبو علي هذا الغرض ومنه ينفك إعراب قوله تعالى ‏{‏يقال له إبراهيم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 60‏]‏، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «بعديَ» بفتح الياء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم بالبينات‏}‏، الآية يحتمل أن يريد ‏{‏عيسى‏}‏، وتكون الآية وما بعدها تمثيلاً بأولئك لهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون التمثيل قد فرغ عند قوله‏:‏ ‏{‏اسمه أحمد‏}‏، ثم خرج إلى ذكر ‏{‏أحمد‏}‏ لما تطرق ذكره، فقال مخاطبة للمؤمنين، ‏{‏فلما جاء‏}‏ أحمد هؤلاء الكفار ‏{‏قالوا هذا سحر مبين‏}‏، و«البينات» هي الآيات والعلامات، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «هذا ساحر» إشارة إلى ما جاء به، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش وابن وثاب‏:‏ «هذا سحر» إشارة إليه بنفسه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم‏}‏ تعجيب وتقرير أي لا أحد أظلم منه، و«افتراء الكذب» هو قولهم‏:‏ ‏{‏هذا سحر‏}‏، وما جرى مجرى هذا من الأقوال التي هي اختلاق وبغير دليل، وقرأ الجمهور‏:‏ «يُدعى» على بناء الفعل للمفعول، وقرأ طلحة بن مصرف «يدعي» بمعنى ينتمي وينتسب ومن ذلك قول الشاعر ‏[‏ساعدة بن عجلان الهذلي‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

فرميت فوق ملاءة محبوكة *** وأبنت للأشهاد حزة أدعي

والمعنى على هذه القراءة إنما هو إشارة إلى الأنبياء عليهم السلام لما حكي عن الكفار أنهم قالوا‏:‏ «هذا ساحر»، بين بعد ذلك أن العقل لا يقبله، أي وهل أظلم من هذا الذي يزعم أنه نبي ويدعي إلى الإسلام وهو مع ذلك مفتر على ربه وهذا دليل واضح لأن مسالك أهل الافتراء والمخرقة إنما هي دون هذا وفي أمور خسيسة، وضبط النقاش هذه القراءة «يُدَّعى» بضم الياء وفتح الدال المشددة على ما لم يسم فاعله، والضمير في ‏{‏يريدون‏}‏ للكفار، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليطفئوا‏}‏ لام مؤكدة، دخلت على المفعول لأن التقدير‏:‏ «يريدون أن يطفئوا» وأن مع الفعل بتأويل المصدر فكأنه قال‏:‏ يريدون إطفاء، وأكثر ما تلتزم هذه اللام المفعول إذا تقدم تقول لزيد‏:‏ ضربت ولرؤيتك قصدت، و‏{‏نور الله‏}‏ هو شرعه وبراهينه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏ إشارة إلى الأقوال أي بقولهم‏:‏ سحر وشعر وتكهن وغير ذلك، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن والحسن وطلحة والأعرج‏:‏ «والله متمٌّ» بالتنوين، «نورَه» «نورَه» بالنصب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش‏:‏ «متمُ نورِه» بالإضافة وهي في معنى الانفصال وفي هذا نظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

هذا تأكيد لأمر الرسالة وشد لأزرها كما يقول الإنسان لأمر يثبته ويقويه أنا فعلته، أي فمن يقدر على معارضته فليعارض، والرسول المشار إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على الدين كله‏}‏ لفظ يصلح للعموم وأن يكون المعنى أو لا يبقى موضع فيه دين غير الإسلام، وهذا لا يكون إلا عند نزول عيسى ابن مريم، قاله مجاهد وأبو هريرة، ويحتمل أن يكون المعنى أن يظهره حتى لا يوجد دين إلا الإسلام أظهر منه، وهذا قد كان ووجد، ثم ندب تعالى المؤمنين وحضهم على الجهاد بهذه التجارة التي بينها، وهي أن يعطي المرء نفسه وماله، ويأخذ ثمناً جنة الخلد‏.‏ وقرأ جمهور القراء والناس‏:‏ «تُنْجِيكُم» بتخفيف النون وكسر الجيم دون شد، وقرأ ابن عامر وحده والحسن والأعرج وابن أبي إسحاق‏:‏ «تُنَجِّيكم» بفتح النون وشد الجيم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ لفظه الخبر ومعناه الأمر أي آمنوا، وفي مصحف عبد الله بن مسعود‏:‏ «أليم آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا»، وقوله ‏{‏تؤمنون‏}‏ فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون، وقال الأخفش‏:‏ هو عطف بيان على ‏{‏تجارة‏}‏، قال المبرد‏:‏ هو بمعنى آمنوا على الأمر ولذلك جاء ‏{‏يغفر‏}‏ مجزوماً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أشار إلى الجهاد والإيمان، و‏{‏خير‏}‏ هنا يحتمل أن يكون للتفضيل، فالمعنى من كل عمل، ويحتمل أن يكون إخباراً، أن هذا خير في ذاته ونفسه، وانجزم قوله ‏{‏يغفر‏}‏ على الجواب للأمر المقدر في ‏{‏تؤمنون‏}‏، أو على ما يتضمنه قوله‏:‏ ‏{‏هل أدلكم‏}‏ من الحض والأمر وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ‏:‏ «يغفلكم» بإدغام الراء في اللام ولا يجيز ذلك سيبويه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومساكن‏}‏ عطف على ‏{‏جنات‏}‏، وطيب المساكن سعتها وجمالها، وقيل طيبها المعرفة بدوام أمرها، وهذا هو الصحيح، وأي طيب مع الفناء والموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرى‏}‏ قال الأخفش هي في موضع خفض على ‏{‏تجارة‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10‏]‏، وهذا قول قلق، قد رد عليه ناس، واحتج له آخرون، والصحيح ضعفه، لأن هذه «الأخرى» ليست مما دل عليه إنما هي مما أعطى ثمناً وجزاء على الإيمان والجهاد بالنفس والمال، وقال الفراء‏:‏ ‏{‏وأخرى‏}‏ في موضع رفع، وقال قوم‏:‏ إن ‏{‏أخرى‏}‏، في موضع نصب بإضمار فعل، كأنه قال‏:‏ ‏{‏يغفر ذنوبكم ويدخلكم جنات‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 12‏]‏ ويمنحكم أخرى، وهي النصر والفتح القريب، وقرأ ابن أبي عبلة «نصراً من الله وفتحاً»، بالنصب فيهما، ووصفها تعالى بأن النفوس تحبها من حيث هي عاجلة في الدنيا، وقد وكلت النفس لحب العاجل، ففي هذا تحريض، ثم قواه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ وهذه الألفاظ في غاية الإيجاز، وبراعة المعنى، ثم ندب تعالى المؤمنين إلى النصرة، ووضع لهم هذا الاسم، وإن كان العرف قد خص به الأوس والخزرج، وسماهم الله تعالى به، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعرج وعيسى‏:‏ «أنصاراً»، بتنوين الأنصار، وقرأ الباقون والحسن والجحدري «أنصارَ الله»، بالإضافة، وفي حرف عبد الله‏:‏ «أنتم أنصار الله»، ثم ضرب تعالى لهم المثل بقوم بادروا حين دعوا، وهم «الحواريون»‏:‏ خلصان الأنبياء، سموا بذلك لأنه ردد اختبارهم وتصفيتهم، وكذلك رد تنخيل الحواري‏:‏ فاللفظتان في الحور، وقيل‏:‏ «الحَواريون» سموا بذلك لبياض ثيابهم، وكانوا غسالين، نصروا عيسى، واستعمل اسمهم حتى قيل للناصر العاضد حواري، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وحواريي الزبير»، وافتراق طوائف بني إسرائيل هو في أمر عيسى عليه السلام، قال قتادة‏:‏ والطائفة الكافرة ثلاث فرق‏:‏ اليعقوبية‏:‏ وهم قالوا هو الله، والإسرائيلية‏:‏ وهم قالوا ابن الله، والنسطورية‏:‏ وهم قالوا هو إله، وأمه إله والله ثالثهما، تعالى الله عن أقوالهم علواً كبيراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم‏}‏ قيل ذلك قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد فترة من رفع عيسى عليه السلام، رد الله تعالى الكرة لمن آمن به، فغلبوا الكافرين الذين قتلوا صاحبه الذي ألقي عليه الشبه، وقيل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم، أصبح المؤمن بعيسى ظاهراً لإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لا يؤمن أحد حق الإيمان بعيسى، إلا وفي ضمن ذلك الإيمان بمحمد لأنه بشر به، وحرض عليه، وقيل كان المؤمنون به قديماً ‏{‏ظاهرين‏}‏ بالحجة، وإن كانوا مفرقين في البلاد، مغلوبين في ظاهر الحياة الدنيا، وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن‏:‏ «فأيَدنا» مخففة الياء ممدودة الألف‏.‏

نجز تفسير سورة الصف ولله الحمد كثيراً‏.‏

سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

تقدم القول في لفظ الآية الأولى، واختلفت القراءة في إعراب الصفات في آخرها‏.‏

فقرأ جمهور الناس‏:‏ «الملكِ» بالخفض نعتاً ‏{‏لله‏}‏، وكذلك ما بعده، وقرأ أبو وائل شقيق بن سلمة وأبو الدينار‏:‏ «الملكُ» بالرفع على القطع، وفتح أبو الدينار القاف من «القَدوس»، و‏{‏الأميين‏}‏‏:‏ يراد بهم العرب، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتاباً، قيل هو منسوب إلى الأم، أي هو على الخلقة الأولى في بطن أمه، وقيل هو منسوب إلى الأمة، أي على سليقة البشر دون تعلم، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهذا ضعيف، لأن الوصف ب ‏{‏الأميين‏}‏ على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا»‏.‏

وهذه الآية تعديد نعمة الله عندهم فيما أولاهم، والآية المتلوة‏:‏ القرآن ‏{‏يزكيهم‏}‏ معناه‏:‏ يطهرهم من الشرك وينمي الخير فيهم، و‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ الوحي المتلو، ‏{‏والحكمة‏}‏‏:‏ السنة التي هي لسانه عليه السلام، ثم أظهر تعالى تأكيد النعمة بذكر حالهم التي كانت في الضد من الهداية، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏}‏، ‏{‏وآخرين‏}‏ في موضع خفض عطفاً على ‏{‏الأميين‏}‏ وفي موضع نصب عطفاً على الضمائر المتقدمة‏.‏

واختلف الناس في المعنيين بقوله‏:‏ ‏{‏وآخرين‏}‏ من هم‏؟‏ فقال أبو هريرة وغيره‏:‏ أراد فارساً، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من الآخرون‏؟‏ فأخذ بيد سلمان وقال‏:‏ «لو كان الدين في الثريا لناله رجال من هؤلاء»‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ وقال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ أراد الروم والعجم، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ على هذين القولين‏:‏ إنما يريد في البشرية والإيمان كأنه قال‏:‏ وفي آخرين من الناس‏:‏ وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل‏:‏ أراد التابعين من أبناء العرب، فقوله‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ يريد به النسب والإيمان، وقال ابن زيد ومجاهد والضحاك وابن حبان‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏وآخرين‏}‏ جميع طوائف الناس، ويكون منهم في البشرية والإيمان على ما قلناه وذلك أنا نجد بعثه عليه السلام إلى جميع الخلائق، وقال ابن عمر لأهل اليمن‏:‏ أنتم هم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لما يلحقوا‏}‏ نفي لما قرب من الحال، والمعنى أنهم مزمعون أن يلحقوا فهي «لم» زيدت عليها «ما» تأكيداً‏.‏ قال سيبويه «لما» نفي قولك قد فعل، و«لن» قولك فعل دون قد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏}‏ الآية، تبيين لموقع النعمة، وتخصيصه إياهم بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏الذين حملوا التوراة‏}‏ هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و‏{‏حملوا‏}‏ معناه‏:‏ كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها، فهذا كمال حمل الإنسان الأمانة، وليس ذلك من الحمل على الظهر، وإن كان مشتقاً منه، وذكر تعالى أنهم ‏{‏لم يحملوها‏}‏، أي لم يطيعوا أمرها، ويقفوا عند حدها حين كذبوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، و‏{‏التوراة‏}‏ تنطق بنبوته، فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار، فهي عنده والزبل وغير ذلك بمنزلة واحدة، وقرأ يحيى بن يعمر‏:‏ «حَمَلوا» بفتح الحاء والميم مخففة، وقرأ المأمون العباسي‏:‏ «يُحَمَّل أسفاراً» بضم الياء وفتح الحاء وشد الميم مفتوحة، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «كمثل حمار» بغير تعريف، والسفر‏:‏ الكتاب المجتمع الأوراق منضودة، ثم بين حال مثلهم وفساده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بئس مثل القوم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم‏}‏ الآية، روي أنها نزلت بسبب أن يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا يهود خيبر في أمره، وذكروا لهم نبوته، وقالوا‏:‏ إن رأيتم اتباعه أطعناكم وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون‏:‏ نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن، وأبناء عُزيْر ابن الله ومنا الأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب، نحن أحق بالنبوة من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت الآية بمعنى‏:‏ أنكم إذا كنتم من الله تعالى بهذه المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الحسية أحب إليكم ‏{‏فتمنوا الموت‏}‏ إن كنتم تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة، أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يتمنونه ولا يلقونه إلا كرهاً لعلمهم بسوء حالهم عند الله وبعدهم منه‏.‏ هذا هو المعنى اللازم من ألفاظ الآية، وروى كثير من المفسرين أن الله تعالى جعل هذه الآية معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وآية باهرة، وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودة مات وفارق الدنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تمنوا الموت» على جهة التعجيز وإظهار الآية، فما تمناه أحد خوفاً من الموت، وثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، ثم توعدهم تعالى بالموت الذي لا محيد لهم عنه، ثم بما بعده من الرد إلى الله تعالى، وقرأ ابن مسعود‏:‏ «منه ملاقيكم» بإسقاط ‏{‏فإنه‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي إنباء معاقب مجاز عليه بالتعذيب، وقرأ ابن أبي إسحاق «فتمنوا الموت» بكسر الواو وكذلك يحيى بن يعمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

«النداء بالجمعة» هو في ناحية من المسجد، وكان على الجدار في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال السائب بن يزيد‏:‏ كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد على باب المسجد، وفي مصحف أبي داود‏:‏ كان بين يديه وهو على منبر أذان، وهو الذي استعمل بنو أمية، وبقي بقرطبة إلى الآن، ثم زاد عثمان النداء على الزوراء ليسمع الناس، فقوم عبروا عن زيادة عثمان بالثاني، كأنهم لم يعتدوا الذي كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقوم عبروا عنه بالثالث، وقرأ الأعمش وابن الزبير‏:‏ «الجمْعة» بإسكان الميم وهي لغة، والمأمور بالسعي هو المؤمن الصحيح البالغ الحر الذكر، ولا جمعة على مسافر في طاعة، فإن حضرها أحسن، وأجزأته‏.‏

واختلف الناس في الحد الذي يلزم منه السعي، فقال مالك‏:‏ ثلاثة أميال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ من منزل الساعي إلى المنادي، وقال فريق‏:‏ من منزل الساعي إلى أول المدينة التي فيها النداء، وقال أصحاب الرأي‏:‏ يلزم أهل المدينة كلها السعي من سمع النداء ومن لم يسمع، وإن كانت أقطارها فوق ثلاثة أميال‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ ولا من منزله خارج المدينة كزرارة من الكوفة، وإنما بينهما مجرى نهر، ولا يجوز لهم إقامتها لأن من شروطها الجامع والسلطان القاهر، والسوق القائمة، وقال بعض أهل العلم‏:‏ يلزم السعي من خمسة أميال، وقال الزهري‏:‏ من ستة أميال، وقال أيضاً‏:‏ من أربعة أميال وقاله ابن المنكدر، وقال ابن عمر وابن المسيب وابن حنبل‏:‏ إنما يلزم السعي من سمع النداء، وفي هذا نظر‏.‏ والسعي في الآية‏:‏ ليس الإسراع في المشي كالسعي بين الصفا والمروة، وإنما هو بمعنى قوله‏:‏ ‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏، فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي سعي كله إلى ذكر الله تعالى، قال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم‏:‏ إنما تؤتى الصلاة بالسكينة، فالسعي هو بالنية والإرادة، والعمل والذكر هو وعظ الخطبة قاله ابن المسيب، ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الملائكة على باب المسجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول إذا خرج الإمام طويت الصحف وجلست الملائكة يستمعون الذكر»، والخطبة عند جمهور العلماء شرط في انعقاد الجمعة، وقال الحسن‏:‏ وهي مستحبة، وقرأ عمر بن الخطاب، وعلي وأبي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير، وجماعة من التابعين‏:‏ «فامضوا إلى ذكر الله»، وقال ابن مسعود‏:‏ لو قرأت «فاسعوا» لأسرعت حتى يقع ردائي‏.‏

واختلف الناس في‏:‏ ‏{‏البيع‏}‏ في الوقت المنهي عنه إذا وقع ما الحكم فيه بعد إجماعهم على وجوب امتناعه بدءاً، فقال الشافعي‏:‏ يمضي، وقال مرة‏:‏ يفسخ ما لم يفت فإن فات صح بالقيمة، واختلف في وقت التقويم، فقيل‏:‏ وقت القبض، وقيل‏:‏ وقت الحكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى السعي وترك البيع، وقوله‏:‏ ‏{‏فانتشروا‏}‏ أجمع الناس على أن مقتضى هذا الأمر الإباحة، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتغوا من فضل الله‏}‏ أنه الإباحة في طلب المعاش، وأن ذلك مثل قوله تعالى‏:‏

‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ إلا ما روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ذلك الفضل المبتغى هو عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا ينبغي أن يكون المرء بقية يوم الجمعة، ويكون نحوه صبيحة يوم السبت، قاله جعفر بن محمد الصادق، وقال مكحول‏:‏ الفضل المبتغي العلم، فينبغي أن يطلب إثر الجمعة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهواً‏}‏ الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير من الشام تحمل ميرة وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي، قال مجاهد‏:‏ وكان من عرفهم أن يدخل عير الميرة بالطبل والمعازف والصياح سروراً بها، فدخلت العير بمثل ذلك، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر ولم يبق معه غير اثني عشر رجلاً‏.‏ قال جابر بن عبد الله‏:‏ أنا أحدهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولم تمر بي تسميتهم في ديوان فيما أذكر الآن، إلا إني سمعت أبي رضي الله عنه يقول‏:‏ هم العشرة المشهود لهم بالجنة، واختلف في الحادي عشر، فقيل‏:‏ عمار بن ياسر، وقيل‏:‏ عبد الله بن مسعود، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي‏:‏ بقي معه ثمانية نفر، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لولا هؤلاء لقد كانت الحجارة سومت على المنفضين من السماء»، وفي حديث آخر‏:‏ «والذي نفس محمد بيده، ولو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد، أسال عليكم الوادي ناراً» وقال قتادة‏:‏ بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، لأن قدوم العير كان يوافق يوم الجمعة يشبه أن المراحل كانت تعطي ذلك‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إليها‏}‏ ولم يقل تهمماً بالأهم، إذ هي كانت سبب اللهو ولم يكن اللهو سببها، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «ومن التجارة للذين اتقوا والله خير الرازقين»‏.‏ وتأمل إن قدمت التجارة مع الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين، وهذه الآية، قيام الخطيب، وأول من استراح في الخطبة عثمان، وأول من جلس معاوية وخطب جالساً، والرازق صفة فعل، وقد يتصف بها بعض البشر تجوزاً إذا كان سبب رزق الحيوان، ‏{‏والله‏}‏ تعالى ‏{‏خير الرازقين‏}‏‏.‏

نجز تفسير سورة الجمعة والحمد لله كثيراً‏.‏

سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

فضح الله تعالى بهذه الآية سريرة المنافقين، وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏نشهد إنك لرسول الله‏}‏، وهم في إخبارهم هذا كاذبون، لأن حقيقة الكذب أن يخبر الإنسان بضد ما في قلبه، وكسرت الألف من «إن» في الثلاثة، لدخول اللام المؤكدة في الخبر، وذلك لا يكون مع المفتوحة، وقوله‏:‏ ‏{‏نشهد‏}‏ وما جرى مجراها من أفعال اليقين، والعلم يجاب بما يجاب به القسم، وهي بمنزلة القسم، وقرأ الناس‏:‏ «أيْمانهم» جميع يمين، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف «إيمانهم»، بكسر الألف، أي هذا الذي تظهرون، وهذا على حذف مضاف، تقديره‏:‏ إظهار إيمانهم، والجنة‏:‏ ما يستتر به في الأجرام والمعاني، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فصدوا‏}‏ يحتمل أن يكون غير متعد تقول‏:‏ صد زيد، ويحتمل أن يكون متعدياً كما قال‏:‏

صددت الكأس عنا أم عمرو *** والمعنى‏:‏ صدوا غيرهم ممن كان يريد الإيمان أو من المؤمنين في أن يقاتلوهم وينكروا عليهم، وتلك سبيل الله فيهم، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى فعل الله تعالى في فضيحتهم وتوبيخهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى ساء عملهم أن كفروا بعد إيمانهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمنوا ثم كفروا‏}‏ إما أن يريد به منهم من كان آمن ثم نافق بعد صحة من إيمانه، وقد كان هذا موجوداً، وإما أن يريدهم كلهم، فالمعنى ذلك أنهم أظهروا الإيمان ثم كفروا في الباطن أمرهم فسمى ذلك الإظهار إيماناً، وقرأ بعض القراء‏:‏ «فطبع» على بناء الفعل للفاعل، وقرا جمهور القراء‏:‏ «فطُبع» بضم الطاء على بنائه للمفعول بغير إدغام‏.‏ وأدغم أبو عمرو، وقرأ الأعمش‏:‏ «فطبع الله»، وعبر بالطبع عما خلق في قلوبهم من الريب والشك وختم عليهم به من الكفر والمصير إلى النار، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم‏}‏ توبيخ لهم لأنهم كانوا رجالاً أجمل شيء وأفصحه، فكان نظرهم يروق وقولهم يخيب، ولكن الله تعالى جعلهم «كالخشب المسندة»، وإنما هي أجرام لا عقول لها، معتمدة على غيرها، لا تثبت بأنفسها، ومنه قولهم‏:‏ تساند القوم إذا اصطفوا وتقابلوا للقتال، وقد يحتمل أن يشبه اصطفافهم في الأندية باصطفاف الخشب المسندة وخلوهم من الأفهام النافعة خلو الخشب من ذلك، وقال رجل لابن سيرين‏:‏ رأيتني في النوم محتضناً خشبة، فقال ابن سيرين‏:‏ أظنك من أهل هذه الآية وتلا‏:‏ ‏{‏كأنهم خشب مسندة‏}‏‏.‏ وقرأ عكرمة وعطية‏:‏ «يُسمع» مضمومة بالياء، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وعاصم‏:‏ «خُشُب» بضم الخاء والشين، وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي‏:‏ «خُشْب» بضم الخاء وإسكان الشين وهي قراءة البراء بن عازب واختيار ابن عبيد‏.‏

وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب‏:‏ «خَشَب» بفتح الخاء والشين، وذلك كله جمع خشبة بفتح الخاء والشين، فالقراءتان أولاً كما تقول‏:‏ بُدْنة وبَدْن وبُدْن‏:‏ قاله سيبويه، والأخيرة على الباب في تمرة وتمر‏.‏

وكان عبد الله بن أبي من أبهى المنافقين وأطولهم، ويدل على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه، وقد تقدم في سورة البقرة تحرير أمر المنافقين وكيف سترهم الإسلام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحسبون كل صيحة عليهم‏}‏، فضح أيضاً لما كانوا يسرونه من الخوف، وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بقتلهم، وقال مقاتل‏:‏ فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك‏.‏ ويكون في غير شأنهم، وجرى هذا اللفظ مثلاً في الخائف، ونحو قول الشاعر ‏[‏بشار بن برد العقيلي‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

يروّعه السرار بكل أرض *** مخافة أن يكون به السرار

وقول جرير‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم *** خيلاً تكر عليهمُ ورجالا

ثم أخبر تعالى بأنهم ‏{‏العدو‏}‏ وحذر منهم، و‏{‏العدو‏}‏ يقع للواحد والجمع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلهم الله‏}‏ دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة، وتمني الشر لهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنى يؤفكون‏}‏ معناه‏:‏ كيف يصرفون، ويحتمل أن يكون ‏{‏أنى‏}‏ استفهاماً، كأنه قال كيف يصرفون أو لأي سبب لا يرون أنفسهم، ويحتمل أن يكون‏:‏ ‏{‏أنى‏}‏ ظرفاً ل ‏{‏قاتلهم‏}‏ كأنه قال ‏{‏قاتلهم الله‏}‏، كيف انصرفوا أو صرفوا، فلا يكون في القول استفهام على هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

كان أمر عبد الله بن أبي ابن سلول، أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فبلغ الناس إلى ماء سبق إليه المهاجرون وكأنهم غلبوا الأنصار عليه بعض الغلبة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه‏:‏ قد كنت قلت لكم في هؤلاء الجلابيب ما قلت فلم تسمعوا مني، وكان المنافقون ومن لا يتحرى يسمي المهاجرين الجلابيب ومنه قول حسان بن ثابت‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أرى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا *** وابن القريعة أمسى بيضة البلد

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتحض علينا يا حسان» ث، م إن الجهحاه الغفاري كان أجيراً لعمر بن الخطاب ورد الماء بفرس لعمر، فازدحم هو وسنان بن وبرة الجهني وكان حليفاً للأوس فكسع الجهجاه سناناً، فغضب سنان فتأثروا، ودعا الجهجاه‏:‏ يا للمهاجرين، ودعا سنان‏:‏ يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «ما بال دعوى الجاهلية»، فلما أخبر بالقصة، قال‏:‏ «دعوها فإنها منتنة»‏.‏ واجتمع في الأمر عبد الله بن أبيّ في قوم من المنافقين، وكان معهم زيد بن أرقم فتى صغيراً لم يتحفظ منه، فقال عبد الله بن أبي‏:‏ أوَقَد تداعوا علينا فوالله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول‏:‏ سمن كلبك يأكلك، وقال بهم‏:‏ ‏{‏لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏، وقال لهم‏:‏ إنما يقيم هؤلاء المهاجرون مع محمد بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعتم ذلك عنهم لفروا، فذهب زيد بن أرقم إلى عمه وكان في حجره وأخبره، فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا زيد، غضبت على الرجل أو لعلك وهمت»، فأقسم زيد ما كان شيء من ذلك، ولقد سمع من عبد الله بن أبيّ ما حكى، فعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي عند رجال من الأنصار، فبلغه ذلك، فجاء وحلف ما قال، وكذّب زيداً، وحلف معه قوم من المنافقين، فكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وصدق عبد الله بن أبي، فبقي زيد في منزله لا يتصرف حياء من الناس، فنزلت هذه السورة عند ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد وقال له‏:‏ «لقد صدقك الله يا زيد ووفت أذنك»، فخزي عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، ومقته الناس، ولامه المؤمنون من قومه وقال بعضهم‏:‏ امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترف بذنبك يستغفر لك، فلوى رأسه إنكاراً لهذا الرأي، وقال لهم‏:‏ لقد أشرتم عليّ بأن أعطي زكاة من مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا هو قصص هذه السورة موجزاً، و«تعال» نداء يقتضي لفظه أنه دعاء الأعلى للأسفل، ثم استعمل لكل داع لما فيه من حسن الأدب‏.‏ وقرأ نافع والمفضل عن عاصم «لووا» بتخفيف الواو، وهي قراءة الحسن بخلاف ومجاهد، وأهل المدينة، وقرأ الباقون وأبو جعفر والأعمش‏:‏ «لوّوا» بشد الواو على تضعيف المبالغة، وهي قراءة طلحة وعيسى وأبي رجاء وزر والأعرج، وقرأ بعض القراء هنا‏:‏ «يصِدون» بكسر الصاد، والجمهور بضمها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سواء عليهم‏}‏ الآية، روي أنه لما نزلت‏:‏ ‏{‏إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لأزيدن على السبعين»، وفي حديث آخر‏:‏ «لو علمت أني إن زدت على السبعين غفر لهم لزدت»، فكأنه عليه السلام رجا أن هذا الحد ليس على جهة الحتم جملة، بل على أن ما يجاوزه يخرج عن حكمه، فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله تعالى عليهم في هذه السورة، وأعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أعلم أني إن زدت غفر لهم» نص على رفض دليل الخطاب‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «أستغفرت» بالقطع وألف الاستفهام، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع‏:‏ «آستغفرت» بمدّ على الهمزة وهي ألف التسوية، وقرأ أيضاً‏:‏ بوصل الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كله ضعف لأنه في الأولى‏:‏ أثبت همزة الوصل، وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية‏:‏ حذف همزة الاستفهام وهو يريدها وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم الذين‏}‏ أشار عبد الله بن أبي ومن قال بقوله، قاله علي بن سليمان ثم سفه أحلامهم في أن ظنوا إنفاقهم هو سبب رزق المهاجرين ونسوا أن جريان الرزق بيد الله تعالى، إذا انسد باب انفتح غيره، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي‏:‏ «حتى يُنفِضْوا» بضم الياء وتخفيف الفاء، يقال‏:‏ «أنفَضَ» الرجل إذا فني طعامه فنفض وعاءه والخزائن موضع الإعداد، ونجد القرآن قد نطق في غير موضع بالخزائن ونجد في الحديث‏:‏ «خزنة الربح» وفي القرآن‏:‏ ‏{‏من جبال فيها من برد‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏، فجائز أن تكون هذه عبارة عن القدرة وأن هذه الأشياء إيجادها عند ظهورها جائز‏.‏ وهو الأظهر‏.‏ إن منها أشياء مخلوقة موجودة يصرفها الله تعالى حيث شاء، وظواهر ألفاظ الشريعة تعطي هذا‏.‏ ومعناه في التفسير قال عتت على الخزان، وفي الحديث‏:‏ «ما انفتح من خزائن الربح على قوم عاد إلا قدر حلقة الخاتم، ولو انفتح مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا»

، وقال رجل لحاتم الأصم‏:‏ من أين تأكل، فقرأ‏:‏ ‏{‏ولله خزائن السماوات والأرض‏}‏، وقال الجنيد‏:‏ ‏{‏خزائن‏}‏ السماء‏:‏ الغيوب، و‏{‏خزائن‏}‏ الأرض‏:‏ القلوب‏:‏ وقرأ الجمهور‏:‏ «ليُخرِجن الأعز» بضم الياء وكسر الراء بمعنى أن العزيز يخرج الذليل ويبعده، وقال أبو حاتم‏:‏ وقرئ «لنَخرُجن» بنون الجماعة مفتوحة، وضم الراء، «الأعزَّ» نصباً منها، «الأذلَّ» أيضاً نصباً على الحال، وذكرها أبو عمر الداني عن الحسن، ورويت هذه القراءة‏:‏ «لنُخرِجن» بضم النون وكسر الراء، وقرأ قوم فيما حكى الفراء والكسائي، وذكرها المهدوي‏:‏ «ليَخرُجن الأعز منها الأذلَّ» بفتح الياء وضم الراء‏.‏ ونصب «الأذلَّ» على الحال بمعنى‏:‏ أن نحن الذين كنا أعزة سنخرج أذلاء، وجاءت هذه الحال معرفة، وفيها شذوذ، وحكى سيبويه‏:‏ أدخلوا الأول فالأول، ثم أعلم تعالى أن العزة لله وللرسول وللمؤمنين، وفي ذلك وعيد، وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان رجلاً صالحاً لما سمع الآية، جاء إلى أبيه فقال له‏:‏ أنت والله يا أبت الذليل، ورسول الله العزيز، فلما وصل الناس إلى المدينة، وقف عبد الله بن عبد الله على باب السكة التي يسلكها أبوه، وجرد السيف ومنعه الدخول، وقال‏:‏ والله لا دخلت إلى منزلك إلا أن يأذن في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي في أذل الرجال، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه أن خلّه يمض إلى منزله، فقال‏:‏ أما الآن فنعم، فمضى إلى منزله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

الإلهاء والإشغال بملتذ وشهوة، و‏{‏ذكر الله‏}‏ هنا عام في الصلاة والتوحيد والدعاء، وغير ذلك من فرض ومندوب، وهذا قول الحسن وجماعة من المفسرين، وقال الضحاك وعطاء وأصحابه‏:‏ المراد بالذكر‏:‏ الصلاة المكتوبة، والأول أظهر، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنفقوا مما رزقناكم‏}‏، قال جمهور من المتأولين‏:‏ المراد الزكاة، وقال آخرون‏:‏ ذلك عام في مفروض ومندوب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يأتي أحدكم الموت‏}‏ أي علاماته، وأوائل أمره وقوله‏:‏ ‏{‏لولا أخرتني إلى أجل قريب‏}‏، طلب للكرة والإمهال، وفي مصحف أبي بن كعب‏:‏ «آخرتن» بغير ياء، وسماه قريباً لأنه آت، وأيضاً فإنما يتمنى ذلك ليقضي فيه العمل الصالح فقط، وليس يتسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونضرته، وفي مصحف أبي‏:‏ «فأتصدق»، وقوله‏:‏ ‏{‏وأكن من الصالحين‏}‏ ظاهره العموم، فقال ابن عباس هو الحج، وروي عنه أنه قال في مجلسه يوماً‏:‏ ما من رجل لا يؤدي الزكاة ولا يحج إلا طلب الكرة عند موته فقال له رجل‏:‏ أما تتقي الله المؤمن بطلب الكرة‏؟‏ فقال له ابن عباس‏:‏ نعم، وقرأ الآية، وقرأ جمهور السبعة والناس‏:‏ «وأكنْ» بالجزم عطفاً على الموضع، لأن التقدير‏:‏ «إن تؤخرني أصدق، وأكن»، هذا مذهب أبي علي، فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا وهو جزم «أكن» على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني، ولا موضع هنا، لأن الشرط ليس بظاهر، وإنما يعطف علىلوضع حيث يظهر الشرط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يضلل الله فلا هادي به‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏، ونذرهم، فمن قرأ بالجزم عطف على موضع ‏{‏فلا هادي له‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏، لأنه وقع هنالك فعل كان مجزوماً، وكذلك من قرأ‏:‏ «ونكفر» بالجزم عطفاً على موضع فهو خير لكم، وقرأها أبو عمرو وأبو رجاء والحسن وابن أبي إسحاق، ومالك بن دينار وابن محيصن والأعمش وابن جبير وعبيد الله بن الحسن العنبري، قال أبو حاتم، وكان من العلماء الفصحاء‏:‏ «وأكون» بالنصب عطفاً على ‏{‏فأصدق‏}‏، وقال أبو حاتم في كتبها في المصحف بغير واو، وإنهم حذفوا الواو كما حذفوها من «أبجد» وغيره، ورجحها أبو علي، وفي مصحف أبيّ بن كعب وابن مسعود‏:‏ «فأتصدق وأكن» وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها‏}‏، حض على المبادرة ومسابقة الأجل بالعمل الصالح، وقرأ السبعة والجمهور‏:‏ «تعملون» بالتاء على المخاطبة لجميع الناس، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «بما يعملون» بالياء على تخصيص الكفار بالوعيد‏.‏